في 20 تشرين الثاني عام 1935 استشهد زعيم المجاهدين في فلسطين عز الدين القسام الذي ولد عام 1882 في مدينة جبلة على الساحل السوري في معركة مع قوات الاحتلال البريطانية في أحراش قرية يعبد ـ جنين.
هو محمد عز الدين بن عبد القادر مصطفى القسام، عالم جليل، ولد في بلدة "جبلة" على الساحل السوري عام (1300- 1354هـ/ 1882- 1935م) من أسرة كريمة، وكان والده شيخا صوفيا، وله زاوية يعلم فيها الأولاد، أرسله إلى مصر، ليتعلم في الجامع الأزهر عام 1896م، ومكث فيها نحواً من عشر سنوات، كان فيها يتلقى تعاليم الإسلام، وتأثر بأفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي، وكلها أفكار ثائرة، تحض على التمسك بروح الإسلام، وتندد بالاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والتخلف العلمي، والاستعمار الغربي.
كما تأثر بمدرسة الجهاد التي أنشأها محمد رشيد رضا، وعندما عاد إلى بلدته (جبلة) اشتغل بالتعليم والوعظ، فكان معلماً عاملاً على القضاء على الأمية لدى الكبار والصغار، كما كان خطيباً لجامع المنصوري ـ استطاع بخطاباته الواعية المدروسة ذات الموضوعات التي تلامس قلوب المصلين وعقولهم التأثير بالناس، وأن يجمعهم حوله، فاستقطب العمال والفلاحين والفقراء، بما أوتي من براعة الحديث، وتواضع النفس، ودماثة الأخلاق، وكياسة التعامل، واستقامة السلوك، وتوثّب الروح، واستنارة البصيرة، وبما كان فيه من تسام عما يقتتل حوله الطامحون، ومن زهد عما في أيدي الناس، ومن تقشف في حياته البيتية، وفي لباسه وطعامه، ومن تضحية بالجهد والوقت والمال والراحة، ومن جرأة في الحق، ونصر للمظلوم، واستعلاء على المتكبرين وأصحاب النفوذ، فكان العالم القدوة المحبوب لدى المستضعفين والعقلاء من الكبراء.. كان يزورهم في بيوتهم المتواضعة، وفي مزارعهم وقراهم وأماكن عملهم، يشاركهم في أعمالهم، ويجلس إلى موائدهم البسيطة، كما يشاركهم في أعراسهم وأفراحهم، وفي مآتمهم وأتراحهم ومصائبهم.
ايطاليا وطرابلس
وعندما احتلّ الإيطاليون طرابلس الغرب عام 1911م قاد مظاهرة ضدّ إيطاليا في (جبلة) ودعا الناس إلى التطوع من أجل الدفاع عن طرابلس، وانتقى مئتين وخمسين متطوعاً منهم، وجمع المال للمجاهدين وأسرهم، ثم سافر بالمجاهدين إلى ميناء الاسكندرونة وبقوا فيها أربعين يوماً ينتظرون السفينة التي تقلّهم إلى ليبيا دون جدوى فعاد معهم إلى (جبلة) وبنى مدرسة بالمال الذي كان جمعه.
فرنسا وسوريا
وعندما احتلّ الفرنسيون الساحل السوري عام 1918م نادى بالثورة عليهم، وباع بيته الذي لا يملك سواه، واشترى بثمنه أربعاً وعشرين بندقية، وخرج بأسرته إلى قرية (الحفّة) في جبل صهيون وانضمّ بمن معه من المجاهدين إلى الثورة التي قادها المجاهد عمر البيطار في جبال اللاذقية، وصار يشجّع الناس على الالتحاق بالثورة، وعلى قتال الجيش الفرنسي الغازي، فطاردته قوات الاحتلال الفرنسية، وحكمت عليه وعلى عدد من إخوانه المجاهدين بالإعدام غيابياً، ثم حاولت إغراءه بالمال والمنصب، ولكنها فشلت، لأن الشيخ القسام كان فوق الترهيب والترغيب.
وعندما اشتدت ملاحقة الجيش الفرنسي لرجال الثورة، وفرّ عدد كبير منهم إلى تركيا والمدن والقرى السورية البعيدة، غادر الشيخ عز الدين مع بعض إخوانه المجاهدين إلى بيروت، ثم إلى حيفا في فلسطين، أواخر عام 1920م وصار إمام جامع الاستقلال وخطيبه المفوّه، كما انتخب رئيساً لجمعية الشبان المسلمين في حيفا، ونشط في افتتاح عدد من الفروع لها في العديد من القرى التابعة لها، وكان يزورها، من أجل تنظيمها وترتيب أمورها، وتنشيط أعضائها، ويلقي دروسه ومحاضراته فيها، ويجتمع بأبناء تلك القرى يعلّمهم الإسلام، وما ينبغي أن يتحلّى به المسلم من عزّة وكرامة وإباء، كان يعلمهم كيف يدافعون عن أنفسهم وأرضهم ودينهم ضدّ المحتلين الإنجليز، والمستوطنين اليهود، وكان يختار أعوانه ومساعديه ممن يتوسّم فيهم الصدق والإخلاص وحبّ التضحية والجهاد في سبيل الله.
اهداف الثورة
وهكذا استمر خمسة عشر عاماً يخطب ويحاضر ويعظ ويحضّ على الجهاد، ويحثّ على التضحية والبذل والجود بالمال والروح، وكان يشتري السلاح سرّاً، ويدرّب عليه من وقع اختياره عليه من الأتباع، ثم يأمر أعوانه بتدريب من يرونه أهلاً لحفظ السر والكتمان، على السلاح وعلى القتال، ويأمر من يلقاه من أصحاب الحميّة والدين باقتناء السلاح، تمهيداً للقيام بثورة حدّد أهدافها الثلاثة مسبقاً وهي:
1 - تحرير فلسطين من الاستعمار الإنجليزي الذي يُعدّ العدو الأول للفلسطينيين ولسائر المسلمين، لأنه وعد اليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وسمح بهجرة عشرات الآلاف منهم إليها.
2 - الحيلولة دون تحقيق آمال اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وإنشاء دولة يهودية على أرضها.
3 - إقامة دولة عربية إسلامية في فلسطين، تكون نواة لدولة الوحدة التي تجمع العرب والمسلمين وكان شعاره في حركته "هذا جهاد.. نصر أو استشهاد" على ألسنة المجاهدين في حيفا وما حولها.
معركة الاستشهاد
كان الشيخ عز الدين يعمل في سرّية وتكتُّم، ولا يطلع على خطته إلا خاصة أعوانه ومساعديه الذين كانوا يخططون معه للعمليات التي ينفذونها ضد ثكنات الإنجليز، ومستوطنات اليهود القادمين من الخارج وكانت عيون الإنجليز واليهود مفتوحة على الشعب، ثم تركزت على الشيخ عز الدين، وقد استدعته سلطة الاحتلال الإنجليزي وحققت معه أكثر من مرة، ولما عرف الشيخ أن وضعه قد انكشف، وعرف أعداؤه بعض ما قام به، وما يخطط للقيام به، خرج بأعوانه إلى جبل جنين، لتثوير الفلاحين وتدريبهم على حمل السلاح، ومواجهة الإنجليز واليهود، وقبل أن يتحرك الشيخ وأعوانه لتنفيذ ما ينوون القيام به، كشفت سلطات الاحتلال مكانه، فحشدت أكثر من مائة وخمسين شرطياً بريطانياً وعربياً، وحاصرته في حرش (يعبد) صباح 20/11/1935 من ثلاث جهات، وكان بإمكان الشيخ وإخوانه أن يهربوا، ولكنه أبى الفرار من المعركة التي فُرضت عليه، وقرر خوضها مع علمه بأنها معركة غير متكافئة، من حيث العُدد والتدريب والمكان، فقد كان الشيخ وإخوانه في الوادي، وكان المهاجمون المحاصرون في الجبل.
كان القائد الإنجليزي وضع الشرطة العرب في ثلاثة صفوف أمامية، فكانوا يتقدمون الحملة، وكان قد أوهمهم أنهم يهاجمون عصابة من اللصوص وقطّاع الطرق، فأمر الشيخ إخوانه بأن لا يقتلوا أحداً من الشرطة العرب الذين كانوا يتقدمون نحو المجاهدين، وهم لا يعرفون أنهم يقاتلون الرجل الذي يحبّون.. إلى أن أحيط بالشيخ وإخوانه، فطلب قائد الحملة من الشيخ أن يستسلم وإخوانه، لينجوا من الموت المؤكد، فأجابه: "هذا جهاد في سبيل الله والوطن، ومن كان هذا جهاده، لا يستسلم لغير الله..". ثم التفت إلى إخوانه وهتف بهم: "موتوا شهداء". فمات الشيخ وأربعة من إخوانه شهداء، وجُرح اثنان، وأُسر أربعة، بعد ست ساعات من القتال الضاري، أظهر فيه الشيخ وإخوانه بطولة نادرة، وكانوا أمثلة حيّة تحتذى في التضحية والإخلاص لله والأمة والوطن، وكان لاستشهاد الشيخ وإخوانه دويٌّ هائل في فلسطين خاصة وبلاد الشام عامة. ودُفن الشيخ عز الدين في قرية (الشيخ) قرب حيفا، ورثاه كبار الأدباء والشعراء والعلماء السياسيين، ولم يخف بعض القادة الإنجليز إعجابهم بالشيخ وبطولته وجهاده.
منقول