تعريف كلمة المحمل:
كلمة المحمل تعني الهودج المحمول على البعير (الجمل)، وغالبًا ما يُخصص لركوب النساء على الراحلة، ويكون مغطّى بقماش يحيط به من جميع الجهات.
وصف المحمل الشريف:
أما المحمل النبوي الشريف فهو هودج مغطّى بعدة قطع من القماش المزخرف بالآيات القرآنية، كان يُحمل على جمل خاص ضمن موكب خاص مع قافلة الحج. ويحوي هذا المحمل أستار الكعبة المشرفة (الكسوة)، وهدايا ذات قيمة عالية للحرمين الشريفين، وصرة سلطانية كبيرة (كمية من الأموال) تحتوي على قطع ذهبية كثيرة ومجوهرات كريمة، توزّع على أهل الحجاز، وتصرف على إصلاح طرق الحج وموارد الماء وإعمار مكة المكرمة والمدينة المنورة ومرافق الحرم النبوي الشريف. وسمي المحمل النبوي الشريف لأنه في الأساس هدية الخلفاء إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وإلى أتباعه المسلمين في الحجاز، وخاصة في الحرمين الشريفين، ويستفيد منه الحجاج والمعتمرون.
تاريخ المحمل الشريف:
جرت العادة على إرسال كسوة للكعبة تعظيمًا لها. وبدأت عادة إرسال الصرة بانتظام إلى الحرمين الشريفين في عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله (295 - 320هـ / 908 - 932م). كما تشير الوثائق إلى أن حكام مصر من الفاطميين ثم السلاطين المماليك، كانوا يرسلون الكسوة وصرة إلى الحجاز أيضًا في احتفالات خاصة.
فخر السلاطين العثمانيين:
لقد أولى السلاطين العثمانيون مكة المكرمة ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم اهتمامًا بالغًا، ولا شك أن أكبر دليل على ذلك مواكب المحمل النبوي الشريف، أو مواكب الصرة -كما عُرفت في التاريخ العثماني. وهو محمل كان يرسله السلطان إلى الحجاز كل عام في موسم الحج في موكب عظيم تحمله مئات الجمال، وتحيط به كتائب كثيرة من الفرسان المدججين بالسلاح مع أستار الكعبة، وهدايا ذات قيمة عالية، وصرة سلطانية كبيرة تحتوي على قطع ذهبية كثيرة ومجوهرات كريمة توزَّع على أهل تلك البلاد، وتصرف على إصلاح طرق الحج، وإعمار مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومرافق الحرم الشريف.
فلقد درج السلاطين العثمانيون على إرسال الصرة منذ بداية تأسيس السلطنة العثمانية. وتشير الوثائق المتوافرة في مركز الوثائق التاريخية بإسطنبول (الأرشيف العثماني) إلى أن أول صرة أرسلت في عهد السلطان بايزيد الأول (791 - 805هـ / 1389 - 1402م) وتقول الوثيقة: "لقد صدر الأمر السلطاني بإرسال صرة بمقدار 80 ألف قطعة ذهبية تنفق في مرافق الحرمين، وتوزَّع على فقرائهما وأشرافهما وساداتهما وعلمائهما ..".
وقد أرسل السلطان محمد الأول الملقب محمد جلبي (816 - 824هـ / 1413 - 1421م) 14 ألف قطعة ذهبية عام 816هـ عندما استعاد وحدة السلطنة العثمانية، وصرة أخرى تحتوي على أكياس لم يحص عددها عام 824هـ قبل وفاته.
أما السلطان مراد الثاني (824 - 855هـ / 1421 - 1451م) فقد أمر بصرف ألف قطعة ذهبية إلى السادة الأشراف الموجودين بقربه. كما وقف موارد منطقة بالق حصار الواقعة قرب مدينة أنقرة إلى أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف، إضافة إلى إرساله صرة تحتوي على 35000 قطعة ذهبية كل عام. وفي وصيته سنة 850هـ / 1446م أمر بوقف ثلث أملاكه الموجودة في مانيسا لخدمة الحرمين الشريفين، وذلك يعني 10000 قطعة ذهبية كل عام.
وقد أمر السلطان محمد الفاتح بإرسال 9000 قطعة ذهبية مع مرسوم سلطاني إلى الحجاز قام بقراءته شريف مكة للمسلمين أمام الكعبة المعظمة. وردَّ شريف مكة بأن أرسل إلى السلطان هديةً ماءَ زمزم وعددًا من حمام الكعبة، ثم حدد السلطان محمد الفاتح كمية تزيد عن 200 ألف قطعة ذهبية لخدمة الحرمين الشريفين كل سنة.
وعندما تسلَّم السلاطين العثمانيون مسؤولية الخلافة الإسلامية، وبالتالي مسؤولية الحرمين الشريفين وأصبح من ألقابهم (خادم الحرمين الشريفين) منذ قيام السلطان سليم الأول (918 - 926هـ / 1512 - 1520م)، لذلك أمر السلطان سليم الأول بتخصيص 200 ألف قطعة ذهبية كل عام للحرمين الشريفين مع هدايا ثمينة ومواد غذائية متنوعة.
أما أكثر السلاطين إرسالًا للصرة بين آل عثمان فهو السلطان سليمان القانوني (926 - 974هـ / 1520 - 1566م). ومن اللافت للنظر أنه قد أُنشئت مؤسسة جديدة في هذا العهد باسم "وراثة الصرة" حيث يرث الشخص حصة مورثه من الصرة. وإذا مات صاحب الحق ولم يكن له وارث وزعت حصته على الفقراء والمساكين.
ولم يتخل الخلفاء العثمانيون عن إرسال الصرة السلطانية حتى في أصعب أيام الدولة اقتصاديًّا وسياسيًّا. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى (في عام 1332هـ / 1915م)، تمَّ إرسال 107 حقائب تحتوي على 24 ألف ليرة و847 قرشًا إلى مكة المكرمة، إلى جانب (197) حقيبة تشمل (32 ألف) ليرة و(882) قرشًا، مع حقيبة أخرى لم يعلن عن محتوياتها إلى أهل المدينة المنورة.
وعندما قام الشريف حسين بحركته التمردية بعد تحالفه مع الإنجليز في عام 1334هـ / 1916م، لم يعد للسلطان العثماني سلطة على الحجاز، وعلى الرغم من ذلك فإن السلطان محمد السادس (وحيد الدين) في عام 1336هـ / 1917م أصدر مرسومًا بإرسال الصرة كما كان يجري من قبل لتنفق على أهل مكة المكرمة والمدينة المنورة وعربان الحجاز، وكانت هذه آخر صرة للمحمل، حيث أرسلت عبر الشام في أثناء الحرب العالمية الأولى. ولكن عندما انتهت الحرب بهزيمة السلطنة العثمانية مع دول الوسط الأوربية أمام الحلفاء الأوربيين، عادت القافلة أدراجها إلى إسطنبول. وانتهت هذه العادة المستمرة في التاريخ الإسلامي لخدمة الحرمين الشريفين وسكانهما وحجاج بيت الله الحرام وزوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم استمرت عادة المحمل والصرة من مصر حتى تم توقيفها في عهد الملك عبد العزيز آل سعود الذي سيطر على الحجاز وطرد الأشراف بعد ما سُمِّي (حادثة المحمل) سنة 1344هـ / 1926م إذ هاجم رجال عبد العزيز النجديون القافلة والمحمل لأنهم رأوا فيها بدعة بسبب ما يرافقها من موسيقى الفرقة العسكرية المرافقة، ثم أصبحت الكسوة تصنع في مكة المكرمة.
طريق المحمل والصرة في العهد العثماني:
درج العثمانيون على إرسال الصرة من قصر "طوب قابي" بإسطنبول حتى سنة 1255هـ / 1839م عند إعلان التنظيمات الخيرية. إذ بدأ الموكب ينطلق من قصر "دولمة باغجة"، ثم من قصر "يلدز". وكان يتم إرسال المحمل النبوي الشريف والصرة السلطانية إلى الحجاز عبر البر، تحمله مئات الجمال حتى عام 1281هـ / 1864م حيث أصبح يرسل بالمراكب البحرية.
وبعد إنشاء سكة الحجاز الحديدية صار المحمل النبوي الشريف والصرة السلطانية يرسلان بالقطار، وكان المحمل يلقى الترحيب من قبل المسلمين في كل مكان يمر فيه.
فما إن يدخل شهر رجب حتى كانت الحركة تشمل جميع أرجاء إسطنبول، لأن موعد إرسال المحمل قد اقترب، وسيحمل ستار الكعبة الجديد، والصرة السلطانية التي تشمل أموالًا وهدايا ترسل إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، رمزًا للولاء والحب والإخلاص. فترى المساجد قد زينت بأضواء براقة، وأقيمت حولها السرادقات لإطعام المساكين وإحياء الليالي بتلاوة القرآن الكريم والدروس الدينية والأناشيد في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما يتحدث الأئمة في المساجد عن حب الرسول صلى الله عليه وسلم فينبعث الشوق والحنين إلى ديار الحبيب في قلوب المستمعين.
وهذا الشعور والحيوية والنشاط نفسه يكون في قصر الخلافة "طوب قابي"، إذ تزين كل أرجاء القصر وتقام الخيام العظيمة وتبسط السجاجيد والبسط والستارات المذهبة والورود الزاهية في أنحائه. وتستمر الاحتفالات حتى الثاني عشر من شهر رجب، حيث تمضي الأيام باستقبال الضيوف من أعيان وعلماء أتوا من بلاد مختلفة، وإكرامهم أحسن إكرام، وإلقاء الدروس الدينية وتلاوة القرآن الكريم والأناشيد النبوية، فالقصر في مهرجان دائم وعيد سعيد حتى يوم انطلاق الموكب.
توديع المحمل الشريف:
يدخل السلطان إلى صالة الديوان ويُتلى القرآن الكريم، ويأتي آغاوات الحرم بأكياس ممتلئة بسجلات الصرة السلطانية ليتم تسليمها إلى أمين الصرة الذي كان يختاره السلطان من العلماء أو الجند أو الأشراف. كما يتم الإعلان عما تحتويه الصرة أمام السلطان والحاضرين. ويخرج الجميع إلى ساحة القصر الكبيرة حيث يكون الموكب جاهزًا للانطلاق، وهو يتألف من مئات الجمال المحملة بالهدايا، ومئات من الفرسان المدججين بالسلاح وعلى رأس الموكب جمل المحمل، وهو جمل جميل الشكل مهيب البنية لا يستخدم لأي عمل سوى الحج، ويحمل كسوة الكعبة المعظمة والصرة السلطانية.
وتبدأ الحركة ويبدأ صوت رخيم بتلاوة القرآن، ويمشي جمل المحمل بخطوات بطيئة فيمر أمام السلطان ويتبعه الموكب الكبير، ويسير السلطان ومن معه خلف الموكب حتى يخرج من حديقة القصر؛ والطريق يغص بالناس الذين جاؤوا ليشهدوا هذه اللحظات العظيمة، ويودعوا ذلك المحمل العزيز الذي يسافر إلى مدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وترتفع الأصوات بالأناشيد والأدعية، وتسيل الدموع على الخدود، ويبلغ الشوق إلى الحرم الشريف أقصاه. وبعد لحظات تتضاءل صورة الموكب وسط مياه البسفور على المراكب الشراعية كلما ابتعد عن الضفة الأوروبية واقترب من منطقة أسكدار في الضفة المقابلة، ويغيب تماما بعد قليل، وتعود الوجوه المودعة إلى منازلها وهي في شوق إلى اليوم الذي سيعود فيه.
وما أن يصل موكب المحمل إلى أُسكدار حتى ييمم وجهه شطر ديار الشام مجتازا أراضي الأناضول مدينة تلو أخرى. أما استقبال أهل الأناضول الأوفياء للمحمل فلا تسأل عن روعته ودفء اللقاء فيه. فالموكب يسير على طريق تناثرت عليها أزاهير الحب للحبيب المصطفى، وكلما مر على مدينة انضم إليه المزمعون على الحج من الأهالي مودعين الأحباب بدموع ملؤها الشوق والود.
"الشام الشريف" يستقبله:
أخيرا يصل الموكب بحمله العزيز ومرافقيه الأوفياء إلى "الشام الشريف"، وهو الاسم الذي أطلقه العثمانون على أراضي الشام. وتحط القافلة رحالها في دمشق الحبيبة، ملتقى قوافل الحجاج من كل أنحاء العالم. فإليها يتقاطر الحجاج من دول آسيا وجنوبي أوروبا وأفريقيا وأماكن أخرى من بلاد الإسلام، ومنها تسير الأفواج إلى الأراضي المقدسة.
مع فرحة اليوم الأول من عيد الفطر يبدأ الشوق إلى لقاء عيد الأضحى في الأراضي المباركة، وتبدأ مراسم المحمل حيث تصطف الفرق العسكرية أمام الجامع الأموي وتؤدي التحية لوالي المدينة وقائدها العسكري، وتخرج الشموع والزيوت المهيأة لإرسالها مع موكب الحج إلى الحرمين الشريفين وسط احتفال كبير.
وفي الأيام التالية يتجه الجميع إلى القلعة حيث اللواء النبوي الشريف القريب من ضريح الصحابي الجليل أبي الدرداء رضي الله عنه، ويخرج اللواء باحترام كبير ويحمل إلى قصر الوالي في انتظار يوم الانطلاق.
ويأتي اليوم الموعود وهو اليوم الرابع من شهر شوال حيث يخرج المحمل الشريف مع اللواء السعيد والهدايا الكريمة الأخرى. ويعطي أمير الحج إشارة الانطلاق، فتبدأ الحركة ويسير المحمل الشريف وسط حشد كبير من المسؤولين والمرافقين والمودعين. يمر الموكب العظيم من باب الميدان ثم باب مصر متجها نحو قرية القدم، بينما يتهافت الناس من كل صوب يملأون الشوارع مهللين مكبرين مودعين، وأصوات المنشدين وقراء القرآن الكريم تضفي على سماء المدينة جوا روحانيا رفيعا وتثير في القلوب عواطف شجية رقيقة.
وفي قرية القدم، وهي المحطة الأخيرة قبل الإقلاع ينتظر الموكب أن تكتمل عدة السفر عشرة أيام، كما يوضع المحمل الشريف وكسوة الكعبة المعظمة والصرة السلطانية في صناديقها الخاصة وسط احتفالات كبيرة. وأخيرا تشد القافلة رحالها باسم الله ناحية الأراضي المقدسة.
الأضحى عيد الوصال:
تصل القافلة المباركة إلى مكة المكرمة يوم عيد الأضحى المبارك. وليست احتفالات استقبال المحمل النبوي الشريف في مكة المكرمة بأقل ابتهاجا من احتفالات تشييعه من إسطنبول و"الشام الشريف". ولم لا، وهو قادم من مقر الخلافة -وقتها- ويحمل كسوة الكعبة وهدايا السلطان وأشواق القلوب التي لم تتمكن من زيارة بيت الله الحرام هذا العام.
وبعد أن يتم توزيع الصرة السلطانية على أماكنها المخصصة يرسل شريف مكة خطاب شكر ودعاء إلى السلطان يحمله إليه شخص يُدعى "حامل البشارة".
ولا بد أن نشير إلى أهم قطعة في هذا الموكب، ألا وهي كسوة الكعبة حيث يتولى السلطان صنعها، ويتم تبديل الكسوة الجديدة بالقديمة وسط احتفالات كبيرة، ويعود الموكب بالقديمة إلى إسطنبول، وتستقبل هي الأخرى بإجلال بالغ، وتوزع قطعها على المساجد السلطانية الكبيرة وعلى العلماء والأعيان وأشراف القوم.
وهذه الاحتفالات المرافقة لموكب المحمل والصرة وقوافل الحج هي إحدى معالم حب السلاطين العثمانيين للرسول صلى الله عليه وسلم ودورهم في إعمار الحرمين الشريفين، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا عبر التاريخ العثماني الممتد أكثر من (600) سنة.
إن رحلة المحمل الشريف، رحلة بدأت من قصر طوب قابي وانتهت في الأراضي المقدسة .. سفر طويل شاق، ولكن في سبيل الحبيب تهون المشاق. وديعة كريمة حملها الكرام على محامل قلوبهم تلبية للعهد ولمشاعر الوفاء. بداية عن طريق البر، ثم عن طريق البحر، ثم عبر السكة الحديدية. رغم مرور السنين لا نزال نتسمع في خيالنا وقع خطوات جمل المحمل رتيبة هادئة مطمئنة ..
المراجع:
- الموسوعة العربية العالمية.
- موقع أرض الحضارات.