المؤامرة الآثمة
كتبه/ سعيد محمود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مقدمة وتمهيد:
- إثارة نفوس السامعين في كل مرة بالتنبيه على فضل مدارسة سورة يوسف: قال عطاء -رحمه الله-: "ما سمع سورة يوسف محزون إلا استراح إليها".
- تذكير مجمل بما سبق مِن أمر رؤية يوسف -عليه السلام-، ونصيحة أبيه بعدم ذكرها على إخوته خشية الحسد والكيد.
- الإشارة إلى أن الآيات التي يدور حولها الحديث اليوم تتحدث عن المؤامرة الآثمة التي يدبرها إخوة يوسف -عليه السلام- للتخلص منه، وتلاوتها مِن قوله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ . إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ . اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ . قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ . قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ . أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ . قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ . قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ . فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ . قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ . وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف:7-18).
- الإشارة إلى أن الآيات تلخص أربع مشاهد: "مشهد الحسد والتآمر - ومشهد التفاوض لإقناع يعقوب -عليه السلام- بترك يوسف - ومشهد تنفيذ المؤامرة - ومشهد الخبر الصادم والاعتذار الكاذب".
أولاً: مشهد الحسد والتآمر:
قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ . إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).
- (آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ): علامات ودلالات على وحدانية الله وكمال صفاته، وعلى صدق الرسل وما لهم مِن الصفات الحميدة، وأثر الحسد وسوء الأخلاق وقطع الأرحام.
- (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ): ظنوا أن كثرتهم تعطيهم أفضلية ولو كانوا عصاة مخالفين لأبيهم، ونسوا أن يوسف -عليه السلام- وأخاه قد سبقاهم بالطاعة وبالأدب الرفيع، والتواضع لأبيهم والاسترشاد؛ فضلاً عن كونهما صغارًا.
- (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ): وهذا يدل على سوء أخلاقهم؛ وكيف ذلك وأبوهم هو "الكريم ابن الكريم ابن الكريم"؟! فظنوا بأبيهم التفضيل بسبب الزوجة الأخرى، أو لجمال يوسف الظاهر، وحاشاه؛ فالأنبياء منزهون عن ذلك.
فائدة: فيه دليل على العذر بالجهل في مسائل الاعتقاد، فإن سب الأنبياء ووصفهم بالضلال الأكيد كفر ناقل عن الملة.
تابع: "مشهد المؤامرة": قال الله -تعالى- حكاية عنهم: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ . قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ).
- (اقْتُلُوا) (اطْرَحُوهُ) (وَأَلْقُوهُ): آثار الحسد وما يصل بصاحبه إليه، قال ابن إسحاق: "لقد اجتمعوا على أمر عظيم مِن قطيعة الرحم وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل!".
- (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ): كيف وهم يريدون قتل حبيبه أو إبعاده عنه؟! فلو كانوا صادقين لأحبوا ما يحبه!
- (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ): طريقة شيطانية يسول بها الشيطان للعبد المعصية لتهون عليه، وقد لا يمهل الإنسان العمر أو التوبة؛ وإلا فقد ظلوا على ظلمهم ومعاصيهم نحو أربعين سنة!
- (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ): "قسوة أقل شدة، ولكنها شيء فظيع - ظلمة البئر - العري والجوع - الرق والعبودية".
ثانيًا: مشهد التفاوض:
قال الله -تعالى- حكاية عنهم: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ . أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ . قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ).
- ممارسة الضغط على أبيهم بمختلف الوسائل، وكاد المريب أن يقول خذوني: (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ)، والظاهر أنهم كانوا يطلبون ذلك مِن أبيهم قبْل ذلك وهو يرفض خوفًا مِن مكرهم؛ ولذلك جعلوا يأتون بالمؤكدات: "إنَّ، لام التوكيد"، (وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
حاول يعقوب -عليه السلام- الامتناع بأمرين:
الأول: مشقة فراق يوسف -عليه السلام- ساعات؛ فكيف وأنه سيغيب عنه سنوات؟!
الثاني: خشية أن يأكله الذئب لانشغالهم عنه ولصغره، وقد أخذوها مِن فمه حجة لهم!
- وقفة: الواحد منا يشق عليه فراق أهله وعياله أيامًا أو شهورًا، وليس فيهم مِن الصفات الجميلة -خُلُقًا وخَلقًا- عشر معشار ما كان ليوسف -عليه السلام-، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن يوسف -عليه السلام-: (اُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ) (رواه مسلم)، مع ما جمع مِن صفات الجمال الباطن؛ فكيف وهم يريدون تغييبه أبدًا؟!
ثالثًا: مشهد تنفيذ المؤامرة:
قال الله -تعالى-: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ... ).
- اتفاق عجيب على طفل صغير!
انظر ماذا يفعل الحسد بأصحابه... !
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وذكر السدي وغيره: أنه لم يكن بيْن إكرامهم له وبين إظهار الأذى له، إلا أنه غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه، ثم شرعوا يؤذونه بالقول مِن شتم ونحوه، والفعل مِن ضرب ونحوه، ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه، فربطوه بحبل ودلوه فيه، فكان إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه، وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على يديه، ثم قطعوا الحبل من نصف المسافة، فسقط في الماء فغمره، فصعد إلى صخرة تكون وسطه يقال له الراغوفة فقام فوقها" اهـ.
- وقفة: لكَ أن تتأمل كيف كان حال هذا الطفل البريء الطاهر النجيب الذكي الكريم؟ ولك أن تتخيل الحال حين انصرفوا عنه وتركوه، وجاء عليه الليل وهو في ظلمة البئر كذلك! لكَ أن تتخيل حال طفل صغير حُرِم مِن أبيه الحنون وأمه الشفيقة وأخيه الرفيق بنيامين! لكَ أن تتخيل ما المصير الذي ينتظره: أهو الموت خوفًا ورعبًا وهمًّا، أم هو الموت جوعًا وضعفًا، أم ماذا هو المصير؟! شيء يُبكي القلب قبْل العين! ولكن رحمة الله العليم الحكيم أعظم مِن أبيه وأمه والناس أجمعين!
- (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ): وحي إلهام وتثبيت، وإظهار للحفظ والرعايا والنصرة، وبما سيؤول إليه الأمر مِن لقائك بهم مرة أخرى ورفعتك عليهم.
رابعًا: مشهد الخبر الصادم والاعتذار الكاذب:
قال الله -تعالى-: (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ . قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ).
- دموع التماسيح المفترسة وحقيقتها الكذب؛ لأنها لا تبكي أصلاً وإن غمرت عيونها بالماء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ) (متفق عليه).
- (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ): خبر وقعه كالصاعقة -أو أشد- على قلب الأب الحنون.
- (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) قطعوا على أنفسهم طريق الرجوع عن الكذب، فما قالوا: "ضلَّ منا في الطريق"؛ فأمكن الرجوع بـ"وجدناه"!
- (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)، (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ).
أمران جعلا يعقوب -عليه السلام- لا يصدقهم:
الأول: ما كانوا عليه مِن الحسد وسوء الخلق.
الثاني: أين آثار الذئب على القميص مِن تقطيعٍ وافتراس؟
- (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا) فالقميص غير الممزق يؤكِّد ذلك، وأن يوسف -عليه السلام- لم يمت.
- (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ): سأصبر مِن غير جزعٍ في القلب، ولا شكوى لغير الله، ولا عمل بالجوارح ينافي ذلك، وسأتوكل على ربي في جلب المنافع ورفع المضار وإنفاذ وعده، فالله لطيف لما يشاء.
ما أجمل هذه الكلمات إذا قالها كل مظلوم مبتلى، وأيقن ما تحمله! قالت عائشة -رضي الله عنها- لما اُتهمت ظلمًا وزورًا في حادثة الإفك: "وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)" (متفق عليه).
خاتمة: ماذا فعل الله -تعالى- بالطفل البريء الذي ألقي في البئر ظلمًا وعدوانًا وهو الذي اصطفاه واجتباه، وأراه مِن آياته ما أراه؟
هذا هو موضوع الحديث في المرة القادمة -إن شاء الله تعالى-.
منقول